الحكمة من
الطواف حول الكعبة ورمي الجمرات |
سؤال : ما الحكمة من الطواف حول
الكعبة المشرفة ورمي الجمرات في الحج ؟
جواب :
الحكمة
من الطواف بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :
((
إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة
ذكر الله
))
رواه أبو داود ،
فالطائف يطوف بجسده وأما قلبه وروحه فإلى الله اتجهاهما ، وبه تعلقهما . ولسان
الحاج وقلبه يلهجان بقولهما :
(( لبيك اللهم لبيك
))
وما سمعنا عن أحد أنه قال : ((
لبيك يا كعبة لبيك ))
، فالطواف والتلبية استجابة لأمر الله ، وليست للكعبة . . ولعل مما يفسر هذا
قول بعض الصالحين : طاف الجسد بالبيت ، وطاف القلب برب البيت .
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه
الكريم : ((
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
))
(البقرة:125).
وأما ما أورده بعض الزنادقه من أن
الطواف بالبيت هو وثنية ، فذاك من زندقتهم وإلحادهم وجهلهم ، فإن المؤمنين ما
طافوا به إلا بأمر الله ، وما كان بأمر الله فالقيام به عبادة لله تعالى .
ويرجم الحاج
الشيطان رمزاً لما بعد الحج ، فهي رياضة روحية للمؤمن ، لذلك فإن الحاج بعد
الحج يتذكر الرجم والحرب التي أعلنها على الشيطان ، فلا يتلكأ عن معاداة من
رجمه ، ولذا تتوضح آثار الرجم بعد الحج في السلوك والمعاملات وفي الصمود
للمغريات .
ألم تر عزيزي السائل إلى الجندي
وهو يتدرب على تمثال من ورق أو خرق ، يطعنه ويصرخ ، فلم يفعل هذا ؟
هل هذا سخف ؟ لا . . . لأنه تدريب
ليوم اللقاء الحقيقي مع الأعداء .
ألم تسمع عن
الجيوش ، إنها تقوم بمناورات بذخيرة غير حية ، فهل تهدر الوقت وتضيع تعب الجند
وجهدهم عبثاً ؟ لا . . إنها تتدرب على هدف رمزي تحتله وهو من بلادها ، ويهتف
الجند صيحة النصر . إن هذا رمز وتدريب للمعركة الحقيقية القادمة .
وكذلك الرجم : إنه
لرمز كتمثال الجندي ، وكالبقعة التي احتلت وصرخ الجميع لاحتلالها صرخة النصر .
. فتمثل الشيطان الذي يصد عن سبيل الله في مكان الرجم ثم رجمه ، معناه لا طاعة
له بعد اليوم ، بل حرب معلنة بين الحاج وبينه حتى يلقى الحاج ربه ، فكلما عرض
له في أمر يريد غوايته تذكر الرجم والحرب المعلنة ، فلا يخضع له ولا يطيعه ،
وتبقى طاعته لله وحده . . .
ان في الحج تتحقق
منافع دينية ودنيوية معاً ، فيه منافع روحية وأدبية واجتماعية واقتصادية . .
ففي المؤتر الكبير الذي يعقد في عرفات ، رمز لتوحيد كلمة المسلمين وتوجيههم إلى
تدارس المشكلات والأمور التي تواجه شعوبهم ، وفي الحج مساواة عملية بين الأمير
والفرد العادي ، فلا تمييز : لباس واحد ، وحياة واحدة ، بل سمو فوق المادة
والحسب والنسب والمال والجاه .
حقاً ان هذا المؤتر الإسلامي
العالمي لا شبيه له . . . الحج رياضة روحية وفكر وروح وتربية ومنافع .
يقول الدكتور وهبة الزحيلي تحت
عنوان : (
ليشهدوا منافع
لهم ) :
الإسلام
وشرائعه خير كلّه ، ورحمة كلّه ، ومصلحة كلّه ، وفضل ونعمة مسداة كلّه ، مَن
دان به رشد ، ومَن عمل به سعد ، ومَن التزمه فاز ونجا ، ومَن أعرض عنه أو انحرف
زاغ وضلّ ، وتاه وشذّ .
وكلّ شيء في هذا الإسلام العظيم من عقيدة قائمة على التوحيد الخالص ، والتنزيه
المطلق لله . وعبادة تصقل النفوس ، وتهذب الطبائع ، وتربي القلب ، وتصحح الفكر
، وتصلح الفرد والمجتمع . ومعاملة قائمة على الحقّ ، والعدل والميزان ،
والاستقرار . وأخلاق وفضائل تقوِّم الاعوجاج ، وتلجم الأهواء والشهوات ، وتنمي
عواطف الحبّ والودّ والخير والسلام ، وتحقق الاستقامة والرشد ، وراحة النفس
والضمير ، وسلامة الأمة والجماعة ... كل هذه العقائد والعبادات ، والأخلاق
والمعاملات ، ذات غايات سامية ومقاصد عالية ، هدفها تهذيب النفس الإنسانية ،
وتربية الإنسان تربية قويمة صحيحة ، توفّر على العلماء والدولة والمعلمين ثروات
كبرى ، لا تحتاج إلا إلى شيء من التذكير والبيان ، والتبسيط في تحديد الأهداف
والسمات المميزة لها .
وهذا واضح كل الوضوح ، ففي جانب العبادات المفروضة في الإسلام ـ من صلاة وزكاة
وصيام وحجّ على سبيل المثال ـ حصر دقيق لغاياتها في القرآن ، يدور حول التقويم
والتهذيب والتربية والإصلاح ، وأكتفي بإيراد آية كريمة في كلّ منها عدا الحجّ :
ففي قوله تعالى عن الصّلاة : {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ }1 بيان الغاية التربوية منها .
وفي قوله سبحانه عن الزكاة : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} 2 إرشاد لجانب التطهير
وتزكية النفوس وتخليصها من آفات البخل والشح ، وإنقاذ المستضعفين من الفقراء
والمساكين من ذلِّ الحاجة والضعف والعوز .
وفي قوله ـ عزّ وجلّ ـ عن صيام شهر رمضان : {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}3 بيان صريح لثمرة
الصوم وفائدته العظمى ، وهي إعداد النفس لتقوى الله ، بترك الشهوات المباحة
والمحظورة ، وتقويم النفس وتربيتها وتزكيتها ، والالتزام بالمأمورات الإلهية ،
واجتناب المنهيات .
فهذه كلها غايات تربوية سامية تتحقق بممارسة العبادات ، ومنها فريضة الحجّ
بدءاً من رحلة المغادرة للوطن ثم العودة إليه ، وهذه الرحلة تدريب عملي ميداني
على آداب الإسلام وأخلاقه ، وتجرد خالص للعبادة ، وإظهار شامل للطاعة المطلقة ،
وتصفية الأعمال من شوائب المادة وآصار الدنيا ومغرياتها ، وتعلقات الحياة
الرغيدة ومفاتنها ، وتجوال الفكر العميق في تقديس الله ـ تعالى ـ وجلاله وعظمته
، وتحقيق ـ كغيره من العبادات ـ لمنافع الدين والدنيا والآخرة .
قال الله تعالى في كتابه الكريم : { وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}4
فجاء الأمر الإلهي ـ في هاتين الآيتين ـ بفريضة الحجّ ، مقروناً ببيان حكمة
الحجّ ، للفرد والجماعة والأمة ، في نطاق العبادة والنفع الذاتي والاجتماعي
والسياسي ، فكانت منافعه وفوائده خاصة وعامة ، لأنه بمثابة مؤتمر عام ، يستفيد
منه الحجّاج فوائد دينية بأداء الفريضة ، وتربوية أخلاقية بالممارسة الفعلية
للعلاقات الاجتماعية الحساسة والعادية ، وسياسية إسلامية . يتداول فيه المسلمون
ـ بنحو جماعي ـ أوضاع بلادهم ، وشؤون شعوبهم ، بإخلاص وصراحة ، وجدية وحرارة ،
ونقد بنّاء ، ومذاكرة في هموم وآمال وآلام الأمة الإسلامية ، يعودون بعدها
لبلادهم ، وهم مزوّدون بماينبغي فعله على الصعيدين : المحلي الخاص والدولي
العام ، واضعين نصب أعينهم وحدة الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا ، وأخوّة
المؤمنين وما تتطلبه من تضحيات جسام وتعاون وتضامن فعّال ، ووقوف بصرامة وجرأة
أمام مخططات الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة أو المشبوهة ، ومحاولة التغلب عليها
وإحباطها ، حفاظاً على العزّة والكرامة الإسلامية ، وحماية لوجود المسلمين ،
ورعاية لمصالحهم في الداخل والخارج ، سواء في وقت السلم والاستقرار ، أو في وقت
المحنة والحرب والصراع المسلح ، والمجابهة الاقتصادية والتحديات المختلفة .
والكلام عن الآية : { ليشهدوا منافع لهم } يحتاج لبيان معنى اللام في الفعل ،
ومعرفة سبب تنكير كلمة «منافع» ، وتحديد أنواع المنافع .
أمّا معنى لام «ليشهدوا» فهو ـ كما جاء في تفسير الميزان ـ للتعليل أو الغاية ،
والجار والمجرور في «لهم» متعلق بقوله : «يأتوك» والمعنى : يأتوك لشهادة منافع
لهم ، أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم . وجاء في أحكام القرآن لابن العربي : هذه
لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها ، وتنسَّق عليه ، ـ أي أنها لام
الغاية والصيرورة ـ وأجلّها قوله تعالى : { ...
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 5 . وقد تتصل هذه اللام بالفعل ، كما
تقدم ، وتتصل بالحرف كقوله تعالى : { ... لِئَلَّا
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ... } 6 .
وأمّا تنكير كلمة «منافع» فهو كما قال الفخر الرازي : إنما نكّر المنافع ; لأنه
أراد منافع مختصة بهذه العبادة ، دينية ودنيوية ، لا توجد في غيرها من العبادات
. وقال الآلوسي : «منافع» أي عظيمة الخطر ، كثيرة العدد ، فتنكيرها ـ وإن لم
يكن فيها تنوين ـ للتعظيم والتكثير ، ويجوز أن يكون للتنويع ، أي نوعاً من
المنافع الدينية والدنيوية .
وأما المراد بكلمة «منافع» فيروى عن محمد الباقر (رضي الله عنه) تخصيص المنافع
بالأخروية وهي العفو والمغفرة . وفي رواية عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
تخصيصها بالدنيوية . أي أنه حملها على منافع الدنيا ، وهي أن يتجروا في أيام
الحجّ ، وتكون إذناً بالاتجار ، كما جاء في آية أخرى : {
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } 7
. قال القرطبي : ولا خلاف في أن المراد بالآية : التجارة .
والأولى عند جماهير المفسّرين حمل الكلمة على الأمرين ، أي المنافع الدينية
والدنيوية معاً ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في
الآية : منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة ، فأما منافع الآخرة فرضوان الله
تعالى ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البُدْن (الإبل والبقر ونحوهما)
في ذلك اليوم ، والذبائح والتجارات . وخصّ مجاهد منافع الدنيا بالتجارة ، فهي
جائزة للحاج من غير كراهة ، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر . وهذا مستبعد ;
لأن نداءهم ودعوتهم لذلك غير مقصود في العبادة ، بحسب العادة التشريعية .
والتعميم يشمل أربعة أمور : هي شهود (أي حضور) المناسك ، كعرفات والمشعر الحرام
، والمغفرة ، والتجارة ، والأموال ، والمعنى : ليحضروا منافع لهم ، أي ما يرضي
الله ـ تعالى ـ من أمر الدنيا والآخرة ، فتتحقق بالحجّ منافع الدنيا والآخرة ،
وما أكثرها وأجداها لكل مؤمن .
وأُرجح القول بالعموم ; عملا بالمعهود من كثرة أفضال الله وعوائده الحسنى على
الناس ; ولأن مقتضى الترغيب والتحريض على أداء الحجّ يناسب ذلك ، ولا داعي
للتضييق وتحجير الواسع ، فإن سعة رحمة الله شملت كلّ شيء . قال ابن العربي :
والدليل عليه عموم قوله : «منافع» فكل ذلك يشتمل عليه هذا القول . وهذا يعضده
تفسير قوله ـ تعالى ـ : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} وذلك هو
التجارة بإجماع من العلماء . فيكون القصد من المنافع ـ إذن ـ منافع الدنيا
والآخرة :
المنافع الدنيوية :
هي التي تكون سبباً لتقدم الحياة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية
والأخلاقية والعادات كلها . فيكون الحجّ والعمرة مدرسة عملية تدريبية على تحقيق
المساواة التامة بين الناس في مظهرهم وحقوقهم وواجباتهم ، فلا يتميز غني بغناه
، ولا يعرف فقير بفقره ، ولا حاكم بعزّته وسلطانه ، ولا متنفذ ذو جاه بنفوذه
وجاهه ، ولا متفوق في أي شيء بتفوقه وتميزه فكراً وعملا واختراعاً وتطبيقاً .
الكل يضرعون إلى الله ، ويتجهون إلى عزّته ، والطمع بعفوه ومغفرته ، والجميع
يتساوون في أداء المناسك والشعائر في الوقوف بعرفات ، والمشعر الحرام ، ورمي
الجمار ، والطواف حول الكعبة المشرفة ، والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق أو
التقصير .
وبعد أداء المناسك يتذاكر الحجاج الآراء في تبادل خيراتهم ومنتجاتهم وثرواتهم ،
فينتفع الكل فرداً وجماعة ، ويعقدون الصفقات أو يصدرون الوعود ، وتتم المكاتبات
ومعرفة العناوين لإكمال ما تمت المفاوضة حوله .
وفي أثناء ممارسة تلك الشعائر يتعاطف الناس ، ويتعلمون كيفية التخلص من داء
الشح والبخل ، فتسخو الأيدي ، ويكثر العطاء والبذل ، ويزداد الإنفاق في سبيل
الله ، وتراق الدماء من الأضاحي والقربات ، ويعم الخير الطوعي ، ويستفيد الكل
من هذا وذاك . وهذا يحقق تضامناً وتكافلا اجتماعياً وطيد الجذور بين الأسرة
الإسلاميّة الكبرى ، ويغتني الفقراء ، وتظهر ثمرات نداء سيدنا إبراهيم (عليه
السلام) فيما حكاه الله عنه : { رَّبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ } 8 .
ويقوى الشعور بالانتماء الخالد للأمة الإسلاميّة ، والغيرة على مصالحها ،
والإحساس بواجب المسلم وحقه على أخيه المسلم ، وضرورة الإسهام في تفادي
المشكلات ، وتخطي المحن والأزمات والصعاب ، وترسيخ جذور وحدة المسلمين ،
بالتعارف والتآلف ، وتقييم الأحوال والأوضاع ، والتخطيط لمستقبل باسم زاهر بعيد
عن العثرات والمآسي والآلام . ويشعر الحجّاج بقوة الروابط التي تربطهم بإخوانهم
في المشارق والمغارب ، والتي أنعم الله بها عليهم ، فأنشأها الإيمان ، وحققها
لهم الإسلام ، وأحكم نسيجها بروابط الأخوة السامية المخلصة ، والمحبة الصادقة ،
والودّ في الله ومن أجل الله ، والإيثار والتضحية والفداء ، والصدق في القول
والعمل ، والتأثر ببيئة وأحوال الصفا والطهر الذي كان الحجُّ مظلة لها ،
ومؤثراً في تكوينها ، فيسهل اللقاء ، وتتجرد النفوس عن الأطماع والمصالح
الذاتية ، والأهواء والشهوات الصارفة عن جادة الاستقامة .
وتظهر في رحلة الحجّ أخلاق سامية ـ عدا ما ذكر ـ من الصبر والتجمل وتحمل الأذى
والمشقة ، والتخلص من العادات الذميمة والخصال السيئة ، والترفع عن المعاصي
والذنوب ، وتحلي النفوس بعواطف المحبة وتنمية عوامل الخير وصنع المعروف ، مما
يجعل هذه الرحلة من أقوم السبل المؤدية إلى تهذيب الأنفس وتقويم الطباع ،
والشعور براحة النفس والأمن والاطمئنان ، وغمرة الفرحة والسعادة بأداء الفريضة
، وبذكر الله : {... أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ }9 .
وقد حذّر القرآن الكريم من التورط بما يتنافى مع إيجابيات الحجّ وآدابه
المتعددة ، فقال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ
وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي
الأَلْبَابِ }10 . ويبشّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجّاجَ
المترفعين عن دنايا الأخلاق ، المعتصمين بعفة اللسان وطهارة القلب ، يبشرهم
بالمغفرة الشاملة ، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي
عن أبي هريرة : « مَن حجّ ، فلم يرفُثْ ، ولم يفسُق ، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته
أُمّه » والرفث كما قال الأزهري : كلمة جامعة لكل مايريده الرجل من المرأة .
والفسق : المعصية ، وقد جاء من حديث جابر مرفوعاً : « إن بِرَّ الحجّ : إطعام
الطعام ، وطيبُ الكلام ، وإفشاء السلام » .
ويمكن تلخيص منافع الحجّ الدنيوية : بطهر النفس ، ونقاء القلب ، وعفة اللسان ،
وسلامة الجوارح (الأعضاء) من كل ما يشينها ويوقع في الأذى .
منافع الحجّ الأخروية :
هي وجوه التقرب إلى الله تعالى ، بما يمثّل عبودية الإنسان من قول وفعل ، وترك
لذائذ الحياة وشواغل العيش ، كما جاء في تفسير الميزان . وثمرته واضحة وهي محو
الذنوب ، وغفران السيئات ، وتحقيق المساواة بين العباد ، فلا تفاضل بينهم إلا
بالتقوى والعمل الصالح ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
} 11 .
إن مناسك الحجّ ترشد إلى معان كثيرة ، لا يصح لحاج تخطيها دون تأمل وإدراك ،
وإمعان النظر فيها ; لأن فهم الحكمة التشريعية منها تزيد النفس متعة ، وتبعث
لأداء التكاليف الشرعية والطاعات الإلهية ، وتحقق مغزى الحجّ على النهج الرباني
المقصود به خير الإنسان وإسعاده .
فالإحرام والتجرّد من لباس الرجال ـ ما عدا ستر العورات بملابس الإحرام
المعروفة ـ يقمع شهوات النفس والأهواء ، ويبعد الناس عن التفكير في الدنيا ،
ويوجه الإنسان إلى الخالق والتفكير بقدسيته وعظمته وجلاله ، ويؤدي إلى سمو
الروح ، وترقي الوجدانات والضمائر ، وإظهار الخضوع والتواضع لله تعالى ، والبعد
عن شوائب الكبرياء والغرور ، وعلاج أمراض النفس من حبّ الاستعلاء ومزامنة الحقد
والشحناء ، وإخلاص العمل لله جلّ جلاله ، وبغير الإخلاص لله الذي هو جوهر الدين
لا قيمة لأي عمل ، ولا فضل لأي مسلم في عبادة ومعاملة وخلق وغير ذلك . ومن أهم
مقومات الإخلاص : التسامح مع المسلمين ، وتطهير النفوس من البغضاء والأحقاد
والخصومات لهم ، سواء المعاصرون أم الغابرون ، عملا بقول الله ـ تبارك وتعالى ـ
: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ
وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 12 .
ونشيد التلبية الذي يردّده الحجّاج ، بدءاً من الإحرام حتى صباح يوم العيد برجم
جمرة العقبة الكبرى شاهد حي ، وواقع ملموس على صدق التوجه إلى الله تعالى ،
والترفع عن أوضار (أوساخ) الدنيا وشهواتها ، والتذكير الدائم بطاعة الله
وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
والحضور إلى بيت الله الحرام لزيارته يحقّق منافع الدنيا والآخرة ; لأن شهود
الكعبة المشرفة إرواء لتعلق القلوب المتلهفة لها ، والإنسان مجبول على حبّ
النفع .
والطواف حول البيت الحرام يؤكّد وحدة المسلمين العامة ، ودليل على التشبه
بملائكة الرحمن الحافين حول العرش ، وتصعيد الروح نحو العلو الإلهي ، وعروج إلى
ملكوت الله بالقلب والفكر ، وتذكير دائم بصاحب البيت وهو الله جلّ وعلا ،
وتجديد العهد مع الله على الإقرار بربوبيته ووحدانيته ، بدءاً من نقطة الانطلاق
في الطواف بالحجر الأسود أو الأسعد ; ليكون قرينة أو أمارة على وحدة العمل بين
الناس ، وطريقاً لإنفاذ عهد الله على الحقّ والعدل والخير والتوحيد والفضيلة .
وهذا العهد الإلهي القديم أشار إليه القرآن المجيد في قوله تعالى : {وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن
تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }
13 .
والسعي بين الصفا والمروة تردد في معالم الرحمة الإلهية ، والتماس للمغفرة
والرضا الرباني ، وتلمس لأفضال الله وخيراته ، وطلب عونه لتحمل مشاق الحياة ،
كما فعلت السيدة هاجر زوج إبراهيم الخليل (عليه السلام) حين أعوزها الماء ،
فقامت تسعى ضارعة إلى الله ـ تعالى ـ لإرواء ظمئها ، وسدّ حاجة ابنها إسماعيل
(عليه السلام) ، قال الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً
فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } 14 . وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله
وسلم)فيما رواه أحمد في مسنده : « اِسعَوا فإن الله كتب عليكم السعي » .
والوقوف بعرفة في ساحة الرضوان الإلهي ، الساحة الواحدة الشاملة لجميع الحجّاج
، إقبال خالص على الله عزّ وجلّ ، واتصال روحاني مباشر مع الله ، واحتماء
بسلطان الله ، وطلب فضله ورحمته ، موقناً الحاج بإجابة دعائه .
وأما الرمي أو رجم إبليس في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة : فهو رمز مادي
لمقاومة وساوس الشيطان وأهوائه ، والتخلص من نزعات الشر ، ومحاربة الفساد
والانحراف ، فهو كما يقول المناطقة : « المحسوس يدل على المعقول » فيكون رمي
الجمرات ، واستلام الحجر الأسود ، والطواف حول الكعبة ، تمثيلا للحقائق بصور
المحسوسات ، ورمزاً لمعان عميقة بصور حركية مادية ، تذكّر المؤمن بأهدافها
وغاياتها ، وتحمله على استدامة المقاومة لشرور النفس ونزعاتها .
هذا هو القصد من هذه الشعائر ، وليس كما يتصور سخفاء العقول من المستشرقين ،
وضعفاء الإيمان ، أن مناسك الحجّ دوران حول أحجار ، وتعظيم للرموز المادية ،
وامتداد للوثنية .
وقد تنتهي هذه الشعائر بذبح الأضاحي والنذور وجزاءات المخالفة للمناسك ; ليكون
ذلك الوداع الأخير للرذيلة بإراقة الدم تعبيراً عن التخلص منها ، والتزام فضيلة
التضحية والفداء ، كما قال الله تعالى : { لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ
كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} 15 .
وكلّ هذه الشعائر والمناسك ذات المنافع الأخروية ، تدل دلالة قوية على الثقة
بالله ، وطلب أفضاله ، وتشعر الإنسان في أعماق نفسه بعظمة الله وجلاله ; وحلاوة
مناجاته وعبادته ، وطلب رضاه وقربه ، فيكثر البكاء ، ويشتدّ النحيب ، وتصفو
النفوس ، وتتكاثر حالات التوبة النصوح الخالصة لله والندم على الماضي . هذا
فضلا عن تذكر أهل الإيمان بماضي الإسلام ، وجهاد نبيّ الله وصحبه الكرام في نشر
دعوة الله ، وتحطيم معاقل الشرك ، وهدم معالم الوثنية ، وتهاوي الأصنام ،
وانتصار دعوة الحقّ والتوحيد . وما أجمل منافع الحجّ في حديث رواه البيهقي : «
الحجاج والعمّار وفد الله ، إن سألوا أُعطوا ، وإن دعوا أُجيبوا ، وإن أنفقوا
أُخلف لهم » ! .

الهوامش :